ماذا وراء مؤتمر المعارضة العراقية في عمّان؟
"فاجأت الأردن الجميع بتغيير موقفها السابق المعلن الذي كان قريباً من حكومة نوري المالكي لأسباب اقتصادية محضة ..".
لم تكن نتائج مؤتمر عمان للقوى الوطنية العراقية مفاجئة، بعد أن كانت طبيعة الدعوات والنيات الأساسية من عقد المؤتمر تعمل باتجاه ما صدر لاحقاً من مقررات تدعم الثورة في العراق، وترفض التقسيم والفيدرالية والأقاليم، وتطالب بمقاربة سياسية جديدة في العراق لا تظلم أو تهمش أحداً، ولا تكون مطية للخارج.
لكن هذه النتائج المفرحة لا ينبغي أن تلهينا عن طرح تساؤلات جدية عن المحطة التي يقدر أن ينتهي إليها هذا المشوار الذي بدأت محطته الأولى بمؤتمر عمان، وعن المعاني الكامنة وراء الحماسة الأردنية لعقده في عمان بهذه الحفاوة والاهتمام والاستعجال، وعن العلاقة بين القوى والكتل والشخصيات المشاركة، وعن علاقة الطابع (السني) للمؤتمر بالرؤية الوطنية الجامعة التي طرحها، وأخيراً عن رؤيته للواقع على الأرض الذي بات موزعاً بين سيطرة كردية على مساحة تفوق مساحة إقليم كردستان، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على الموصل وأجزاء من صلاح الدين وديالى والأنبار، وحكومة فاشلة في بغداد فيها قوى متناحرة ستشعر قريباً بحاجتها للوحدة في مواجهة قوة معارضة تنمو سياسياً وميدانياً.
لقد فاجأت الأردن الجميع بتغيير موقفها السابق المعلن الذي كان قريباً من حكومة نوري المالكي لأسباب اقتصادية محضة، لم يلم أحد عمان عليها، لا سيما أن المملكة طالما احتضنت على أراضيها ولا زالت شخصيات وقوى معارضة للعملية السياسية والاحتلال الأميركي، وكان ذلك على الدوام موقفاً مقدراً ومحترماً. غير أن التحول السريع، على ما فيه من بشرى خير للقوى الوطنية، إلا أنه لا بد أن يثير التساؤلات.
الحكومة في الأردن لم تقدم إجابات واضحة لهذا التغيير الجوهري والمفاجئ في سياستها تجاه العراق، لكن التحليل الأولي ربما يقود إلى تصور أن عمان علمت، سواء من خلال مصادرها أو معلومات أصدقائها في الغرب، أن السلطة الراهنة في العراق لن تصمد طويلاً أمام ضربات الثوار، وأن تغييراً أكيداً سيحصل، حيث ستتغير الوجوه والسياسات، وأن المشروع الإيراني القوي في العراق هو اليوم في مرحلة انهيار وشيك، لذلك كان لا بد أن تأخذ المبادرة قبل أن يتلقفها غيرها، وأن تبدأ بتأسيس تحالفات جديدة مع قوى عراقية ذات صلة بالمستقبل، فتحفظ فيها أمنها القومي ومصالحها.
لكن الأمر ليس أبداً بهذه البساطة، فالتواصل مع (قوى المستقبل) هذه كان يمكن أن يتحقق من دون مؤتمر يرعاه الديوان الملكي، ويحظى بكل هذا الاهتمام والترويج، ومن غير طلاق نهائي مع النظام في بغداد، الذي اعتبر الخطوة الأردنية "طعنة في الظهر"، وقام بسحب السفير، وهدد طبعاً بقطع النفط وسائر المعاملات مع عمان.
ظني أن الأمر ليس مجرد رهان من قبل الأدن على حتمية انتصار قوى الشعب، وانهيار السلطة الحالية وعمليتها السياسية، فالرهانات غير المضمونة ليست من تقاليد السياسة الأردنية الحذرة التي تتلمس خطاها بدقة وتراعي توازنات ومصالح، وتتعامل بواقعية مع قدرات البلاد وفرصها، لا سيما مع الجيران. والأقرب للتحليل هنا أن عمان كانت بخطوتها الجريئة هذه جزءاً من سياق إقليمي ودولي تفاجأ بقدرات ثورة الشعب العراقي، وانهيار قوات النظام السريع وخسارتها السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد خلال بضعة أيام، وهو يريد اليوم أن يشترك في إعادة ترتيب الأوضاع في العراق، على أن تكون الأردن ولأسباب عديدة واجهة هذا التحرك ومفتاحه.
وبطبيعة الحال فالأمر لا يرتبط بمعطيات وضع ميداني قد يكون معروفاً للجميع، بل هو أيضاً حصيلة متغيرات سياسية جرت بتأثير الوضع الميداني ظاهرها انهيار قدرة نوري المالكي على الدفاع عن رغبته بولاية ثالثة في منصبه، وباطنها المستتر المرتبط بمفاجآت الميدان هو تغيير جوهري للعملية السياسية، يقلب الطاولة ويعيد ترتيب هيكل السلطة في العراق، وقد يكون مرتبطاً بنوع من التقسيم الذي قد يتخذ شكلاً فيدرالياً أو حتى أكثر من ذلك، وكل ذلك من المفاجآت المقلقة التي يريد الأردن، وربما دول أخرى، أن تبقيها تحت السيطرة حتى لا تكون سبباً في انهيار شامل في أنحاء المنطقة.
إن الأردن يفضل في هذه الحالة تنظيم علاقاته بـ(جيرانه المستقبليين)، ومساعدتهم في ترتيب أوضاعهم، دون أن يتدخل مباشرة في هذه المرحلة على الأقل في تحديد خياراتهم، فالمهم لديه أن يكون في حال أي تطور في صورة ما يحدث، وأن تكون لديه الفرصة والقدرة للتدخل لحماية مصالحه وأمنه على أقل تقدير.
القصة الأخرى ترتبط ببروز تنظيم الدولة الإسلامية وحضوره الواضح في ميدان المعارك، وقدراته الضخمة التي أصبحت سبب خشية كل دول الجوار من أن تطالها طموحات هذا التنظيم، لا سيما أنه يجد كل يوم مزيداً من المؤيدين والمريدين والأتباع في هذه الدول ومنها الأردن.
لقد وعت الأردن كما سواها أن تنظيم الدولة لا يمكن مواجهته عسكرياً، ولو حدثت مثل هذه المواجهة فستكون طويلة ومكلفة وقاسية، وإزاء هذا المأزق جرى استدعاء تجربة عام 2007 حينما استعانت القوات الأمريكية بالعشائر السنية في العراق، بل وببعض القوى التي كانت محسوبة على المقاومة آنذاك، لتقوم بمحاربة القاعدة في مناطقها، لا سيما في الأنبار التي كانت قد أصبحت كاملة تقريباً خارج سيطرة الأمريكيين.
وهكذا جرى تأسيس ما عرف بالصحوات التي أنقذت المشروع الأمريكي، وكانت تريد أن تواجه المشروع الإيراني، لكنها توجهت بدلاً من ذلك لمحاربة باقي فصائل المقاومة، وأصبحت بعد الانسحاب الأمريكي جزءاً من جهد السلطة، وبالتالي إيران، في إخضاع المناطق السنية، وتحولت إلى مخلب قط شديد القسوة على أبناء هذه المناطق.
وبغض النظر عن مشكلات الصحوات، إلا أن كثيرين تحدثوا عن ضرورة استعادة تجربتها بشكل أوسع وأفضل هذه المرة لمواجهة تنظيم الدولة، وضمان حرمانه من الحاضنة الشعبية، مستشهدين بذلك بمجموعة وقائع ظهر فيها أن تنظيم الدولة لن يقدر له العيش والبقاء وسط بيئة طاردة من أبناء المناطق السنية وقواها العشائرية، حتى لو تسبب ذلك بعمليات انتقامية مؤذية يشنها هذا التنظيم، ففي النهاية لن يهتم أحد كثيراً بحجم التضحيات التي يمكن أن تقدمها المناطق السنية لطرد تنظيم الدولة.
وإلى هذا وذلك فلعلنا نجد سبباً ثالثاً يقف وراء هذا الاهتمام الأردني بأحوال سنة العراق، وذلك يتمثل بتأسيس قاعدة لعلاقة وثيقة بين المؤسسات الأردنية والقوى المؤثرة في القرار السني خارج دائرة السلطة الراهنة، يمكن أن تجعل من الأردن في المستقبل القريب وسيطاً ناجحاً وموثوقاً به لإنجاز عملية مصالحة وطنية شاملة، تقدم فيها كل الأطراف تنازلات جدية، على أن تجري إصلاحات جوهرية في العملية السياسية وفي الدستور تسمح بمثل هذه المصالحة، وتقنع القوى الثورية بجدوى الدخول في حوار مع أطراف كانت تقع في دائرة العدو. أما أطراف النظام السياسي الحالي فستكون مجبرة على الدخول في مثل هذه العملية لأسباب تتعلق بحرج موقفها العسكري، والخلافات السياسية بين أقطابها، وإخفاقها في إدارة الدولة طيلة السنين الماضية، هذا فضلاً عن ضغط أمريكي قد يرغمها على تقديم تنازلات كبيرة، بما في ذلك غياب وجوه رئيسية في المشهد الحالي. كما أن الأمر قد يكون خياراً إيرانياً تفضل فيه إيران أن تحصل على قدر من المصالح في العراق بدلاً من خسارة كل شيء، لا سيما في حال نجاح المفاوضات النووية وبدء تطبيع العلاقات مع الغرب.
يمكن لأحد هذه الأسباب وربما لجميعها أن تقف وراء الموقف الأردني الجديد، لكن يبقى أن يقدر الأردن أن الوضع العراقي أكثر تعقيداً بكثير من مجرد انقسام طائفي بين شيعة وسنة وأكراد، وأن شبكة المصالح الداخلية والإقليمية والدولية في هذا البلد قد تجعل من محاولات التعامل مع القضية العراقية مختبراً صعباً يتطلب الكثير من الحذر والمهارة والصبر.